• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الاستقامة.. سبيل التكامل

الاستقامة.. سبيل التكامل

◄قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13).

إنّ هذه الآية على إيجازها تُعطي مفتاح الحل لكثير من مشاكل الحياة.. فالقرآن الكريم نزل بلسانٍ عربي، ومضمون هذه الآية بمنتهى الوضوح.. فهي على إيجازها تلخص فلسفة الحياة، وفلسفة نجاح الإنسان المؤمن وفلاحه.

(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ).. هل المراد هنا هو القول اللفظي؟ إنّ هناك مَن يقول: ربّي الله – ملايين المرّات – ؛ ولكن لا يدخل في قلبه شيء من الاطمئنان، ولا ينتفي عنه الخوف والحزن! وإنّما المراد هو أن يقول: "ربّي الله" مع الالتزام بلوازم الكلمة، أي يجعل لنفسه ربّاً يرجع إليه، فيخرج من دائرة الحرّية إلى دائرة الرقيّة، يقول علماء الأخلاق والسير إلى الله: إنّ من أجلّ رُتَب المنازل المعنوية، أن يعيش الإنسان حقيقة العبودية على أنّه مملوك، وهذا الإحساس الباطني قد يفوق أعمالاً كثيرة لا يرافقها هذا الإحساس الباطني.. فمثلاً: إنّ الإنسان الذي يعقد على امرأة، فإنّه يعيش مشاعر الزوجية.. والذي يولد له أوّل ولد، فيعيش مشاعر الأبوّة.. وكذلك الأُم تعيش مشاعر الأُمومة؛ ولكن هل عشنا يوماً من الأيام مشاعر العبودية؟! إنّ الإنسان الذي يعيش مشاعر العبودية، فإنّ لهذا الإحساس رصيداً فكرياً، فهو يعيش مشاعر العبودية، لأنّه يرى أنّ هناك مولوية وربوبية في الوجود.

ولكن ماذا تقتضي هذه العبودية؟ هناك تعبير جميل يقول: "العبودية جوهرة كنهها الربوبية".. قد لا يستسيغ البعض هذا المعنى؛ ولكن مع شيء من التوضيح يرتفع العجب! "العبودية جوهرة كنهها الربوبية": أي أنّ الإحساس بالربوبية هو الذي يوجب الشعور بالعبودية، وبالتالي فإنّ المؤمن الذي قال: "ربّي الله" فلا مجال عنده للتراجع، لأنّ هذا الاعتقاد ليس اعتقاداً عاطفياً.. فالذي نلاحظه من بعض المؤمنين من التذبذب والتراجع، والتقدم والتأخر: فتراه ليلة القدر يترقّى، ثمّ ينزل، ثمّ يترقّى في موسم الحج، ثمّ ينزل، ثمّ يترقّى.. وهكذا، إنما يكون كذلك، لأنّ ليس له قانون أساسي.

إنّ على المؤمن قبل أن يقوم بعمل ما أن يُحدِّد مسيره.. (قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ).. نعم، فقد اتخذ قراراً، وهو أن يتخذ الله ربّاً!.. ولكن هل هذا يكفي؟ الجواب: لا، بل إنّهم (ثُمَّ اسْتَقَامُوا) لأنّ هناك صراعاً وحرباً دائرة.. فالسير إلى الله بمثابة اقتحام الميادين، وليس ميداناً واحداً، وإنما في كلّ يوم يقتحم السالك ميداناً جديداً.. فالشيطان في كلّ يوم ينصب له فخّاً، وتجاوز هذا الفخ يحتاج إلى معاملة جديدة في كلّ يوم.. ولهذا فإنّ المؤمن لا ينفك عن الصراع اليومي.. صحيح أنّه منذ أوّل يوم قد حدَّد الوجهة فقال: (رَبُّنَا اللَّهُ)؛ ولكن المهم هو الاستقامة (اسْتَقَامُوا).. فالاستقامة هنا بمعنى الثبات على الطريق المستقيم.

"إنّ الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق".. أي أنّ لكلّ مؤمن ولكلّ مؤمنة سبيله الخاص إلى الله، وفي النهاية هو طريق واحد (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام/ 6).. نعم، إنّ الطريق إلى غير الله لا نهائية.. وأمّا الطريق إلى الله فهو طريق واحد.. فإذن، إنّ الاستقامة عنصر ضروري جدّاً.. فالذي لا نَفَس له في الاستقامة، لا يصل.. والذي لم يتخذ الله ربّاً له، لا يصل أيضاً.

وعليه، فإنّ الوصول يحتاج إلى موقف، وإلى استقامة على هذا الموقف.. وهذه سورة الحمد – أُمُّ الكتاب – التي جعلها الله تعالى في قبال القرآن الكريم، حيث يقول في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر/ 15).. والملاحظ أنّ في هذه السورة طلباً واحداً.. فبعد البسملة، والحمد، والمديح، والاعتراف بالعبودية، والاستعانة، والإقرار بملكية يوم القيامة لله.. بعد كلّ هذا، يطلب من الله طلباً واحداً وهو (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، ثمّ وصف لهذا الصراط.

والقرآن يُفسِّر بعضه بعضاً، فـ(استَقَامُوا) إشارة إلى قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)، أي أنّ على الإنسان أن يستقيم وهو يهديه، فهناك طريق مستقيم واحد منسوب إلى الله (اهدِنَا)، ومنسوب إليك (استَقِم).. ففعل منك وهو الاستقامة، وفعل منه وهو الهداية والنتيجة: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).. فهم لا يخافون من مكروه محتمل، ولا يحزنون من مكروه متحقق. تصوّر أنّ شخصاً يعيش دون خوف من المستقبل، ودون حزن من الماضي أو الحاضر، بمعنى ذلك أنّه إنسان يعيش في قمة السعادة النفسية، ويطير في أجواء عليا، هؤلاء هم أصحاب الجنّة.. فمع أنّهم في الدنيا؛ ولكنّهم يعيشون أجواء الجنّة ونعيمها، ويمتلكون مشاعر أهل الجنّة، فمن أهم نعيم الجنّة أنّ أصحابها لا يخافون ولا يحزنون، وهم أيضاً كذلك لا يخافون ولا يحزنون.. ومن أهم نعيم الجنّة هو رضوان الله، وهم كذلك أيضاً يعيشون في الدنيا برضوان من الله.. ومن أهم نعيم الجنّة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ).. وهم في الدنيا أيضاً يعيشون هذه الحالة.. فإذن إنّ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وليس جزاءً بما كانوا يتمنّون أو يعتقدون، بل بما كانوا يعملون.. وهذا معنى قولهم: (رَبُّنَا اللَّهُ).. فليس قولهم هذا قولاً مجرداً من الفعل، وإنّما هو قول وعمل.►

ارسال التعليق

Top